فصل: تفسير الآية رقم (15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (9):

{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَوَعُّدُ الْأَفَّاكِ الْأَثِيمِ بِالْوَيْلِ، وَالْبِشَارَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ أَصَرَّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا، أَيْ مَهْزُوءًا بِهَا، مُسْتَخِفًّا بِهَا، ثُمَّ تَوَعَّدَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، وَأَنَّهُمْ سَيُعَذَّبُونَ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- قَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْكَهْفِ: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [18/ 106]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْكَهْفِ أَيْضًا: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} الْآيَةَ [18/ 56- 35]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ هَذِهِ: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [45/ 34- 35].
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ-: هُزُؤًا بِضَمِّ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مُحَقَّقَةٌ.
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الزَّايِ وَإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ هُزْءًا، بِسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مُحَقَّقَةٌ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ.
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْوَقْفِ، فَعَنْ حَمْزَةَ نَقْلُ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الزَّايِ، فَتَكُونُ الزَّايُ مَفْتُوحَةً بَعْدَهَا أَلْفٌ، وَعَنْهُ إِبْدَالُهَا وَاوًا مُحَرَّكَةً بِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أَيْ لِأَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِءُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا إِهَانَتُهُمْ وَخِزْيُهُمْ وَشِدَّةُ إِيلَامِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ.
وَلَيْسَ فِيهِ تَطْهِيرٌ وَلَا تَمْحِيصٌ لَهُمْ، بِخِلَافِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ عُذِّبُوا فَسَيَصِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَذَابِ.
فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِعَذَابِهِمْ مُجَرَّدَ الْإِهَانَةِ، بَلْ لِيَئُولُوا بَعْدَهُ إِلَى الرَّحْمَةِ وَدَارِ الْكَرَامَةِ.

.تفسير الآية رقم (10):

{مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} الْآيَةَ [14/ 15- 16]. وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ أَصَحَّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ وَرَاءَ بِمَعْنَى أَمَامَ.
فَمَعْنَى مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ أَيْ أَمَامَهُ جَهَنَّمُ يَصْلَاهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [18/ 79] أَيْ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ.
وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الشَّوَاهِدَ الْعَرَبِيَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ وَرَاءَ بِمَعْنَى أَمَامَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْجَاثِيَةِ هَذِهِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} أَيْ أَمَامَهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ.
أَوْضَحَ فِيهِ أَنَّ مَا كَسَبَهُ الْكُفَّارُ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ بِشَيْءٍ، فَلَا يُجْلَبُ لَهُمْ بِسَبَبِهِ نَفْعٌ وَلَا يُدْفَعُ عَنْهُمْ بِسَبَبِهِ ضُرٌّ، وَإِنَّمَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَالْمَعْبُودَاتِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا شُرَكَاءُ لِلَّهِ- لَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْضًا بِشَيْءٍ.
وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ اللَّتَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، قَدْ أَوْضَحَهُمَا اللَّهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ.
أَمَّا الْأُولَى مِنْهُمَا، وَهِيَ كَوْنُهُمْ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا- فَقَدْ أَوْضَحَهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [111/ 1- 2]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [92/ 11]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} الْآيَةَ [104/ 2- 4]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [39/ 50]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} الْآيَةَ [69/ 27- 28]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [7/ 48]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} الْآيَةَ [26/ 87- 88]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} الْآيَةَ [34/ 37]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [3/ 10]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [3/ 116]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُجَادَلَةِ:
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} الْآيَةَ [58/ 16- 17].
وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا، وَهِيَ كَوْنُهُمْ لَا تَنْفَعُهُمُ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- فَقَدْ أَوْضَحَهَا تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هُودٍ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [11/ 101]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [46/ 28]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [28/ 64]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [18/ 52]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} الْآيَةَ [46/ 5- 6]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [35/ 13- 14]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [19/ 81- 82]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [29/ 25].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، الْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَوْلِيَاءِ هُنَا: الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي يُوَالُونَهَا بِالْعِبَادَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَسَبُوا وَمَا اتَّخَذُوا- مَوْصُولَةٌ- وَهِيَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا الْأُولَى فَاعِلُ يُغْنِي، وَمَا الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا، وَزِيَادَةُ لَا قَبْلَ الْمَعْطُوفِ عَلَى مَنْفِيٍّ- مَعْرُوفَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يُغْنِي أَيْ لَا يَنْفَعُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْغَنَاءِ- بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ- وَهُوَ النَّفْعُ.
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَلَّ غَنَاءً عَنْكَ مَالٌ جَمَعْتَهُ ** إِذَا صَارَ مِيرَاثًا وَوَارَاكَ لَاحِدُ

فَقَوْلُهُ: قَلَّ غَنَاءً، أَيْ قَلَّ نَفْعًا. وَقَوْلُ الْآخَرِ:
قَلَّ الْغَنَاءُ إِذَا لَاقَى الْفَتَى تَلَفًا ** قَوْلُ الْأَحِبَّةِ لَا تَبْعَدْ وَقَدْ بَعِدَا

فَقَوْلُهُ: الْغَنَاءُ أَيِ النَّفْعُ.
وَالْبَيْتُ مِنْ شَوَاهِدِ إِعْمَالِ الْمَصْدَرِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَوْلُ الْأَحِبَّةِ، فَاعِلُ قَوْلِهِ: الْغَنَاءُ. وَأَمَّا الْغِنَاءُ- بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ- فَهُوَ الْأَلْحَانُ الْمُطْرِبَةُ.
وَأَمَّا الْغِنَى- بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ- فَهُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ.
وَأَمَّا الْغَنَى- بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ- فَهُوَ الْإِقَامَةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: غَنِيَ بِالْمَكَانِ- بِكَسْرِ النُّونِ- يَغْنَى- بِفَتْحِهَا- غَنَى- بِفَتْحَتَيْنِ- إِذَا أَقَامَ بِهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [10/ 24]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [7/ 92] كَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا.
وَأَمَّا الْغُنَى- بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ- فَهُوَ جَمْعُ غُنْيَةٍ، وَهِيَ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ الْإِنْسَانُ.
وَأَمَّا الْغُنَاءُ- بِالْمَدِّ وَالضَّمِّ- فَلَا أَعْلَمُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَهَذِهِ اللُّغَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي مَادَّةِ غَنِيَ كُنْتُ تَلَقَّيْتُهَا فِي أَوَّلِ شَبَابِي فِي دَرْسٍ مِنْ دُرُوسِ الْفِقْهِ لَقَّنَنِيهَا شَيْخِي الْكَبِيرُ أَحْمَدُ الْأَفْرَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارُ الْجَكَنِيُّ، وَذَكَرَ لِي بَيْتَيْ رَجَزٍ فِي ذَلِكَ لِبَعْضِ أَفَاضِلِ عُلَمَاءِ الْقُطْرِ، وَهُمَا قَوْلُهُ:
وَضِدُّ فَقْرٍ كَإِلَى وَكَسَحَابِ ** النَّفْعُ وَالْمُطْرِبُ أَيْضًا كَكِتَابِ

وَكَفَتًى إِقَامَةٌ وَكَهُنَا ** جَمْعٌ لِغُنْيَةٍ لِمَا بِهِ الْغَنَى

.تفسير الآية رقم (11):

{هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}.
الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا هُدًى رَاجِعَةٌ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [45/ 6]. وَقَوْلِهِ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ} الْآيَةَ [45/ 6].
وَقَوْلِهِ: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} [45/ 8]. وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا} [45/ 9].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هَدًى، وَأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ لَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا كَوْنُ الْقُرْآنِ هُدًى، فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [7/ 52]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [16/ 89]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [2/ 185]. وَقَوْلِهِ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [2/ 1- 2]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [41/ 44]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا كَوْنُ مَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ- فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} الْآيَةَ [11/ 17]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [20/ 99- 101]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [18/ 106]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} الْآيَةَ [41/ 17]. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ- أَنَّ الْهُدَى يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقًا عَامًّا، بِمَعْنَى أَنَّ الْهُدَى هُوَ الْبَيَانُ وَالْإِرْشَادُ وَإِيضَاحُ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحَقَّ وَأَوْضَحْنَاهُ، وَأَرْشَدْنَاهُمْ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ، وَكَقَوْلِهِ: {هُدًى لِلنَّاسِ} [2/ 185]. وَقَوْلِهِ هُنَا: هَذَا هُدًى- وَأَنَّهُ يُطْلَقُ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ، وَهُوَ التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالِاصْطِفَاءِ، كَقَوْلِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [2/ 2]. وَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [41/ 44]. وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [47/ 17]. وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [6/ 90]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ أَنَّ مَعْرِفَةَ إِطْلَاقِ الْهُدَى الْمَذْكُورِينَ، يَزُولُ بِهَا الْإِشْكَالُ الْوَاقِعُ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
وَالْهُدَى مَصْدَرُ هَدَاهُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ هُنَا مِنْ جِنْسِ النَّعْتِ بِالْمَصْدَرِ، وَبَيَّنَا فِيمَا مَضَى مِرَارًا أَنَّ تَنْزِيلَ الْمَصْدَرِ مَنْزِلَةَ الْوَصْفِ إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَإِمَّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ.
وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى: هَذَا الْقُرْآنُ ذُو هُدًى، أَيْ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ الْهُدَى لِمَنِ اتَّبَعَهُ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9].
وَعَلَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي اتِّصَافِ الْقُرْآنِ بِالْهُدَى حَتَّى أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ نَفْسُ الْهُدَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّجْزِ الْعَذَابُ، وَلَا تَكْرَارَ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ أَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ، وَالْمَعْنَى: لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالْأَلِيمُ مَعْنَاهُ الْمُؤْلِمُ. أَيْ: الْمَوْصُوفُ بِشِدَّةِ الْأَلَمِ وَفَظَاعَتِهِ.
وَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْفَعِيلَ وَصْفًا بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ، فَمَا يُذْكَرُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ مِنْ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ إِنْ صَحَّ عَنْهُ فَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْفَعِيلِ بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [2/ 104] أَيْ مُؤْلِمٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [2/ 117] أَيْ مُبْدِعُهُمَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} الْآيَةَ [34/ 46] أَيْ مُنْذِرٍ لَكُمْ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ** يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ

فَقَوْلُهُ: الدَّاعِي السَّمِيعُ، يَعْنِي الدَّاعِيَ الْمُسْمِعَ. وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلِفْتَ لَهَا بَخِيلٍ ** تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

أَيْ مُوجِعٌ. وَقَوْلُ غَيْلَانَ بْنِ عُقْبَةَ:
وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُورٍ شَمَرْدَلَاتٍ ** يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ

أَيْ مُؤْلِمٌ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، بِخَفْضٍ أَلِيمٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِرِجْزٍ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، بِرَفْعِ أَلِيمٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِعَذَابٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} الْآيَةَ [16/ 14]. وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [43/ 12- 13].

.تفسير الآية رقم (15):

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} الْآيَةَ [17/ 7]. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [45/ 16].
ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ فَضَّلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [2/ 47- 122] فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَوْلِهِ فِي الدُّخَانِ: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [44/ 32]. وَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [7/ 140].
وَلَكِنَّ اللَّهَ- جَلَّ وَعَلَا- بَيَّنَ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} الْآيَةَ [3/ 110]. فَ {خَيْرَ} صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَالْآيَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ.
وَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أُمَّتِهِ: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ مَعْنَى حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْمَذْكُورِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ الْمَعْصُومُ الْمُتَوَاتِرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [3/ 110] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [2/ 143]. وَقَوْلُهُ: وَسَطًا أَيْ خِيَارًا عُدُولًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ- لَا يُعَارِضُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ آنِفًا فِي تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ الْوَارِدَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ذُكِرَ فِيهِمْ حَالَ عَدَمِ وُجُودِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَعْدُومُ فِي حَالِ عَدَمِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُفَضَّلَ أَوْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِ.
وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ وُجُودِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِأَنَّهَا خَيْرُ الْأُمَمِ.
وَهَذَا وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ- إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ ذِكْرُ أَحْوَالٍ سَابِقَةٍ.
لِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَفَرُوا بِهِ وَكَذَّبُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [2/ 89].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ فَضْلًا إِلَّا مَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِهِمُ السَّابِقِ، لَا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ السَّابِقِ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّهَا هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ، كَمَا أَوْضَحْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (18):

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [43/ 43].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
نَهَى اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [17/ 22]- أَنَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- يَأْمُرُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْهَاهُ، لِيُشَرِّعَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِأُمَّتِهِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [45/ 18].
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَّبِعُ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَكِنَّ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ فِيهِ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [76/ 24]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [68/ 8]. وَقَوْلِهِ: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [68/ 10]. وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [17/ 39]. وَقَوْلِهِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [39/ 65]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَدِلَّةَ الْقُرْآنِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاطَبُ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ، فِي آيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورَةِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْجَاثِيَةِ هَذِهِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الشُّورَى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [42/ 15]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [6/ 150]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْقَصَصِ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [28/ 50]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ الْحَقَّ لَوِ اتَّبَعَ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَ الْعَالَمُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [23/ 71].
وَالْأَهْوَاءُ: جَمْعُ هَوًى بِفَتْحَتَيْنِ وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنْ يَاءٍ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

.تفسير الآية رقم (19):

{إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مِرَارًا أَنَّ الظُّلْمَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَصْلُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَأَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِهِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَنْ خَلَقَ وَرَزَقَ هُوَ أَشْنَعُ أَنْوَاعِ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَلِذَا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقُ الظُّلْمِ بِمَعْنَى الشِّرْكِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [2/ 254]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [10/ 106]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [25/ 27]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [31/ 13]. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [6/ 82] بِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْجَاثِيَةِ هَذِهِ مِنْ أَنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ- جَاءَ مَذْكُورًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَنْفَالِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [8/ 73]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [6/ 129]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [2/ 257]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ [7]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} الْآيَةَ [4/ 76]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [3/ 175]. وَقَوْلِهِ:
{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} الْآيَةَ [16/ 100]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}.
ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ وَيَجْتَنِبُونَ نَهْيَهُ.
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاؤُهُ، فَهُوَ وَلِيُّهُمْ وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُمْ يُوَالُونَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ، وَهُوَ يُوَالِيهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْجَزَاءِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
ثُمَّ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِأَوْلِيَائِهِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [10/ 63]. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْجَاثِيَةِ هَذِهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الْآيَةَ [5/ 55]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [2/ 257]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [47/ 11]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [7/ 196]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمَلَائِكَةِ: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} الْآيَةَ [34/ 41]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا.